التعريف به: [ ]
هو الإمام العلم العلامة، الحافظ المجود، شيخ خراسان، أحد أوعية العلم الكبار، ورجل من كبار رجالات الحديث، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، صاحب الكتب الشهيرة والمصنفات الفائقة، ولد في مدينة بُست من أعمال سجستان في خراسان [مدينة في إيران الآن] سنة 273هـ، فأخذ في طلب الحديث منذ بواكيره، وخرج على عادة طلاب الحديث لرحلة علمية كبيرة وواسعة لسماع الحديث من شيوخه وأعلامه في شتى أرجاء الدولة الإسلامية، فطاف أولاً أقاليم خراسان كلها ثم العراق ودخل مصر والشام والسواحل والحجاز واليمن، حتى إنه قد حمل العلم والحديث عن أكثر من ألفي شيخ، فيا لها من همة عالية رفعت لمصاف علماء الأمة الكبار وحفاظها المعروفين.
مصنفاته:
لابن حبان مصنفات كثيرة وشهيرة لم يبق منها للأسف الشديد سوى النذر اليسير، أشهرها على الإطلاق كتاب الأنواع والتقاسيم الذي أطلق عليه أهل العلم اسم (المسند الصحيح)، وهو كتاب لا يقدر على الكشف منه إلا من حفظه تمامًا، وقد التزم ابن حبان فيه بنظام دقيق... قال هو عنه في مقدمته: (شرطنا في نقله ما أودعناه في كتابنا؛ ألا نحتج إلا بأن يكون في كل شيخ فيه خمسة أشياء: العدالة في الدين بالستر الجميل، الثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه، الثالث: العقل بما يحدَّث من الحديث، الرابع: العلم بما يحيل المعنى من معاني ما روى، الخامس: تعري خبره من التدليس).
كما له كتب أخرى مشهورة مثل: التاريخ، الضعفاء، العلل، مناقب الشافعي، موقوف ما رفع، الهداية، وكتب كثيرة ضاعت بسبب فساد الأحوال، وذلك لأنه قد أوقف كتبه كلها لطلبة العلم في داره، فلما انتشرت الفتن والاضطرابات وضعف أمر الخلافة والسلطان، استولى المفسدون على داره وضاعت كتبه العلمية.
ثناء الناس عليه:
لابن حبان مكانة كبيرة ومنزلة عالية في سماء علم الحديث؛ بحيث إنه كان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم؛ فهذا تلميذه أبو عبد الله الحاكم وهو من كبار علماء الحديث وصاحب كتاب المستدرك يقول عنه: (كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، وقد أقام عندنا في نيسابور وبنى الخانقاه (مثل المدرسة) وقرئ عليه جملة من مصنفاته ثم خرج إلى وطنه سجستان عام 340هـ وكانت الرحلة إليه لسماع كتبه).
وقال عنه الحافظ أبو سعد الإدريسي: (كان ابن حبان من فقهاء الدين وحفاظ الآثار، عالمًا بالطب وبالنجوم [يقصد الفلك] وفنون العلم، وقد صنف المسند الصحيح، وقد تولى قضاء سمرقند زمانًا فنشر الفقه والعلم هناك بين الناس).
وقال عنه الخطيب البغدادي: كان ابن حبان ثقة نبيلاً فهمًا.
ولولا أن ابن حبان قد أقدم على توثيق المجاهيل في مسنده لارتفع شأن هذا المسند إلى مصاف الكتب الستة، وأيضًا لزادت مكانته ودرجته في مصاف العلم والعلماء.
محنته:
تعتبر المحنة التي تعرض لها الإمام ابن حبان وكادت تودي بحياته وتقضي على تراثه وعلمه من أعجب المحن والفتن التي يتعرض لها أحد من أهل العلم، وتدل على مدى خطورة الجهل بمعاني الألفاظ ومدلولاتها، وأيضًا تدل على مدى خطورة تحميل الألفاظ والأقوال من أوجه الكلام ما لا تحتمله ولا يتفق مع دين وعقيدة ومكانة قائلها، ويحضرنا عند الحديث عن محنة ابن حبان العجيبة مقولة الإمام مالك الشهيرة: [إذا قال الرجل قولاً يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا والإيمان من وجه واحد حملناها على الإيمان] لأنها تكاد تنطبق على هذه المحنة الغريبة.
ومفاد الحادثة أن الإمام ابن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في نيسابور سئل عن النبوة فقال: النبوة "العلم والعمل"، وكان يحضر مجلسه بعض الوعاظ فقام إليه واتهمه بالزندقة والقول بأن النبوة مكتسبة، وارتفعت الأصوات في المجلس وهاج الناس بين مؤيد للتهمة ونافٍ لها، وخاضوا في هذا الخبر على كل وجه، حتى كتب خصوم ابن حبان محضرًا بالواقعة وحكموا عليه فيه بالزندقة ومنعوا الناس من الجلوس إليه، وهُجر الرجل بشدة، وبالغوا في أذية ابن حبان وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، فكتب بالتحري عن الأمر وقتله إن ثبتت عليه التهمة، وبعد أخذ ورد اتضحت براءة ابن حبان ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان. وهناك وجد أن الشائعات تطارده والتهمة ما زالت تلاحقه. وتصدى له أحد الوعاظ هناك واسمه يحيى بن عمار وظل يؤلب عليه حتى خرج من سجستان وعاد إلى بلده "بست"، وظل بها حتى مات رحمه الله مهمومًا محزونًا من الأباطيل وتهم الزندقة والإلحاد.
ولكن هل مجرد كلمة واحدة تجلب على هذا العلم الفذ كل هذه المتاعب؟ ونحن نقول إن هذه الكلمة وأمثالها قد تفعل مثل ذلك وزيادة إذا ألقيت على أسماع من لا يفهم معاني اللغة ومدلولاتها، وأيضًا إذا ألقيت على أسماع الحاسدين والموتورين الذين يتربصون بأمثال هذا العالم العلامة الدوائر، وينتظرون أي مناسبة وفرصة ولو بشطر كلمة للنيل منه.
فإن كلمة: النبوة العلم والعمل، يقولها المسلم ويقولها الزنديق، يقولها المسلم ويقصد بها مهم النبوة، إذ من أكمل صفات النبي العلم والعمل، فما من نبي قط إلا وهو على أكمل حال من العلم والعمل، وليس كل من برز فيهما نبيًا؛ لأن النبوة محض اصطفاء من الله ، لا حيلة للعبد في نيلها ولا اكتسابها، وابن حبان لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، وذلك نظير قوله : «الحج عرفة» ومعلوم أن عرفة هو ركن الحج الأعظم، ولكن لا يكفي وحده حتى يصير العبد حاجًا، بل هناك أركان وفروض أخرى لشعيرة الحج، ولكن عرفة هو مهم الحج، كما أن العلم والعمل مهم النبوة وهذا ما قصده وأراده ابن حبان، وهذا ما يجب أن يحمل كلامه عليه وهذا اللائق بمكانته وعلمه، وأيضًا اللائق بخلق المسلم الصادق الذي يحسن الظن بإخوانه المسلمين.
وأيضًا هذه الكلمة يقولها الفيلسوف الزنديق وهو يقصد بها أن النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل وكثرة الرياضات والمجاهدات، وهذا كفر مخالف للقرآن والسنة وإجماع المسلمين، وهذا ما لا يريده ابن حبان ولا يقصده أبدًا وحاشاه، فهو من كبار علماء الأمة وأئمتها، ولكن الجهل والحقد والحسد أعمى قلوب معارضيه حتى خاضوا فيه وأجبروه على الرحيل من مكان لآخر حتى استقر في بلده وبها مات، وما أشبه هذه الحادثة بما جرى للبخاري.
فرحم الله الرجلين وأجزل لهما المثوبة وجعل من أبناء الأمة من يذبون عن أعراضهم ويدفعون عنهم الأباطيل والأكاذيب ويكشفون بطلان تهم خصومهم، ويعرفون أبناء المسلمين حقيقة علماء هذا الدين.
المصدر: شبكة طريق السلف.