المبحث الأول : دراسة عامة لأوضاع بلاد المغرب قبل الفتح الإسلامي
سمى هيرودوت النطاق الجغرافي الممتد من غرب مصر حتى البحر الكبير باسم ليبيا و أطلق على سكانه اسم اللوبيين تمييزا لهم عمن جاورهم من زنوج، وكان القرطاجيون قد عرفوا سكان البلاد الأصليين " بالافرى"، وقصدوا بهذه التسمية من كان يتبع سلطانهم تبعية مباشرة، ومن أهم مدنهم " اوتيكا" أو القرية القديمة وقرطاجنة أو القرية الحديثة وربما كانت كلمة " آلافرى" أصلا اشتقت من كلمة افريقية حسب ابن خلدون، والتي اضحت لا تدل على النطاق الجغرافي السابق بل على قارة من قارات الدنيا القديمة، وبتحطيم قرطاجنة عقب الحرب البونية الثالثة 149-146 ق م وانتصاب السيادة الرومانية في المنطقة ظهر في المصطلح الإداري الجغرافي كلمة افريقية أو ولاية افريقية البروقنصلية للدلالة على المناطق التي كانت تبعيتها للقرطاجيين، واستعمل لفظ نوميديا للدلالة على المنطقة المتوسطة التي تليها وموريتانيا للدلالة على المنطقة الغربية المتطرفة ،ثم ما لبث أن انقسمت نوميديا إلى قسمين وموريتانيا قسمين ، وهذا يدل على سياسة الرومان القائمة على التجزئة والتفتيت أي سياسة " فرق تسد " ، وباحتلال البيزنطيين – الروم-للمغرب سنة 534م أصبحت كلمة افريقية تطلق على كل من المنطقة الممتدة من برقة إلى المحيط الأطلسي غربا، وقامت السياسة البيزطية على أساس الاضطهاد والتفرقة ونهب الأراضي الخصبة ومحاولة التغلغل ونشر الدين المسيحي، واستقر البيزنطيون في السواحل، أما بقية مناطق المغرب – افريقية- فظلت حرة تأسست فيها ممالك مستقلة حاربت الوجود البيزنطي-مثل مملكة الحضنة والاوراس والدورسال-إلى غاية مجيء الفتح الإسلامي، كل هذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نتناولها بالشرح والتفصيل في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: الدراسة الاجتماعية
سكان منطقة إفريقيه، منذ عصر مبكر، هم عنصر الامازيغ والأفارقة فضلا عمن طرأ بعد ذلك من الروم، وبهمنا بنوع خاص التعرض للأفارقة والامازيغ الذين لهم صلة بالمنطقة، فالأفارقة خليط جنسي، فيهم من تجري عروق الدماء السامية القرطاجية ومنهم من انتسب إلى السلالة الآرية-الروم الايطاليين-وعن هؤلاء اخذ الامازيغ المسيحية وبعض مظاهر الحضارة الرومانية، كما أطلق الرومان على سكان شمال إفريقيا كلمة بربر وتعني الشعوب الغريبة عن حضارتهم،أما عن طباع الامازيغ فهم أهل بداوة يعتمدون على المرعى الخصيب والماء وهم أهل العزة والغلبة يكرمون الضيف ويحمون الضعيف، ومن أشهر قبائلهم مصمودة وأربه وأزداجة وكتامة وصنهاجة، أما بالنسبة للدين فمنهم من عبد المظاهر الطبيعية كالإله آمون ومنهم من عبد الكبش ومنهم من كان على اليهودية ومنهم ن تأثر بالنصرانية، وهذا على حد قول ابن خلدون " المغلوب مولع بتقليد الغالب"، كل هذه الأوضاع نتناولها بالشرح والتفصيل في النقاط الثلاث الآتية:
التسمية والسكان
المغرب تعبير يدل على الجهة التي تغرب فيها الشمس، ثم أصبح يدل على المنطقة الواقعة غرب العاصمة لجهة مغرب الشمس ، وأول من استعمل هذا المعنى الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ خاطب الخوارج قبل معركة النهروان بعد أن قتلوا رسوله إليهم الحارث بن مرة " أن ابعثوا إلى بقتلة إخواني فأقتلهم ثم أتارككم إلى أن أفرع من قتال أهل المغرب ..... " ثم تحدد بالمنطقة الواقعة غرب مصر من طرابلس شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا ومن البحر المتوسط شمالا إلى الصحراء الكبرى جنوبا.
يشتمل المغرب ثلاث مناطق طبيعية وهذا التقسيم يرجع إلى قرب وبعد المنطقة عن بلاد العرب الحجاز المنطقة الأولى عرفت بالمغرب الأدنى أو افريقية، وهذه الأخيرة اختلف المؤرخون حول أصل تسميتها لكن الذي غلب لدى المؤرخين المسلمين أنها مستمدة من افريقش بن قيس بن صيف اليمني الحميري الذي جاء واستقر على هذه الأرض تمتد هذه المنطقة من برقة إلى نفوسه.
ويلي افريقية المغرب الأوسط ويمتد من بجاية شرقا إلى وهران غربا، وأطلق ابن عذارى اسم الزاب على هذه المنطقة وذكر أنها تمتد من طرابلس شرقا إلى مدينة تيهرت غربا2 .
أما المنطقة الثالثة فهي المغرب الأقصى أبعد أجزاء المغرب عن الحجاز، يمتد المغرب الأقصى من البحر المتوسط شمالا إلى جبال درن جنوبا، ومن وادي ملوية وممر تازا شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا حتى مدينة آسفى3.
وحسب الحقائق المتوفرة عن سكان شمال إفريقيا، فقد أطلق عليهم اسم "بربر " وهو يعني حسب المفهوم اليوناني والمفهوم الروماني إنسان أجنبي لا يتكلم اللغة اليونانية ونفس الكلمة استعملها الرومان عندما تغلبوا على اليونانيين حيث أطلقوا اسم البربر على جميع السكان الذين لا يتكلمون لغتهم ولا ينتمون إلى سلالتهم أوعرقهم، وهو نفس التعبير الذي استخدمه ابن خلدون في كتابه " العبر" حين تعرض لفرق البربر وأنسابهم ومواطنهم ويذكر ابن خلدون أن سبب تسميتهم بربر بسبب إلى افريقش بن قيس بن صيفي "من ملوك التابعة الذي غزا المغرب وافريقية وبني بها المدن والأمصار، وأن إفريقيه سميت باسمه، وأنه سمع السكان الأصليين يتكلمون بأصوات مختلفة فقال لهم افريقش :" ما أكثر بربرتكم ؛ أي كلامكم غير المفهوم فسموا البربر " .
وقال الفيروزبادي صاحب " القاموس المحيط ط أن البربرة كثرة الكلام والجلبة والصياح والفعل هو بربر نفهم من هذا أن مصطلح بربر ليس مفهوما اثنيا ولكنه مفهوم لغوي.
رغم الخلاف حول أصل البربر ونسبهم والمكان الذي قدموا منه في الأصل، فإن معظم الباحثين بأنهم ينتمون إلى الجنس السامي ومن أبناء " مازيغ " ابن كنعان، وقد أكد هذه الحقيقة العلامة ابن خلدون الذي قال حول هذا الموضوع:" والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنها أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح ...وأن اسم أبيهم مازيغ ...." ونفسا الحقيقة أكدها وفد من سكان شمال إفريقيا حين صرح أعضاؤه أمام الخليفة عمر بن الخطاب بعد فتح مصر إذ اعتبروا أنفسهم أمازيغ ولم يقولوا أنهم بربر وكلمة مازيغ " الرجل الحر " كما أن البربر تربطهم صلة قرابة عرب وليسوا غرباء عنهم، ويؤكد معظم المؤرخين وعلى رأسهم ابن خلدون أن البربر ينتمون إلى قيس بن عيلان بن مضر من جزيرة العرب وهناك أمثلة عديدة فقبيلة لواته المغربية من حمير اليمن وهوارة من كنده في قبل الجزيرة العربية وزناته من التابعة أو من العمالقة وكلهم قبائل عربية.
أخلاق البربر وطباعهم
في هذا السياق يجذبنا وصف ابن خلدون لهم وقد كان وصفا رائعا حيث جاء في كتابه " العبر" قوله : " ...وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة وما جبلوا عليه من الخلق الكريم، من عز الجوار وحماية النزيل ورعى الأدمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد والصبر على المكاره والثبات في الشدائد وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام والرحمة بالمسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وتهيئة الكسب للمعدوم وقرى الضيف والإعانة على النوائب وعلوا الهمة وآباء الضيم ومقارعة الخطوب وغلاب الملك .
بالإضافة إلى البربر كان هناك أقليات تعيش على أرض المغرب أهمها على الإطلاق اليهود والرومان، فبالنسبة لليهود، فتاريخ وجودهم بمنطقة الشمال الإفريقي يعود إلى عهد نختصر ملك الآشوريين أي إلى سنة 586 ق.م وكانوا يعتبرون جالية مستقلة لأنهم تجنبوا دوما الاختلاط مع السكان واهتموا فقط بخدمة مصالحهم الاقتصادية.
أما الرومان فقد سيطروا على معظم الشريط الساحلي لشمال إفريقيا وذلك ابتداء من سنة 576م وعملوا على نشر عقيدة المسيحية بين السكان وإيصال الحضارة لهم وأثارهم التي مازالت قابعة في معظم مناطق الشمال الإفريقي برهان على ذلك، لكن تأثيرهم لم ينفذ الى قلب الشمال الافريقي ونقصد به منطقة الصحراء الكبرى ، فلما دخل الفاتحون العرب الى هذه المناطق وجدوا سكان تلك المناطق متمسكين بثقافتهم وعاداتهم القبلية .
الديــــــــن
كان سكان الشمال الإفريقي من قديم الزمان يدينون بالمجوسية وكانوا أحيانا يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم ، أمثال البيزنطيتين الذين نجحوا في تمسيح أعداد هائلة من السكان ، ومن أشهر الديانات للبربر دين وثنى جاءوا به من المشرق وكانوا يعتقدون بوجود اله يدير هذا الكون ، ولكن لا ذات له ترى وإنما تجلى لهم في المظاهر التي تروعهم بقوتها وبجمالها أو بغرابتها فلذلك يعبدون تلك المظاهر وهذا الإله الذي يعتقدون أنه مصدر حياة الكون اسمه " أمون" ومظاهره هي الكبش الاقرن القوي وبعض الحيوانات الأخرى مثل الطاووس ، وكانوا يعتقدون أن قتل هذا الحيوانات أو ضربها يلحق بهم عاهات كبيرة كالجنون والشلل ..الخ .
المطلب الثاني :الأوضاع الاقتصادية والسياسية قبيل الفتح الإسلامي : (602-647م )
يميز النسابة العرب بين جذمين كبيرين للامازيغ يختلفان في نوع الحياة الاجتماعية والاقتصادية، الجذم الأول وتسمى قبائله البرانس والجذم الثاني وتسمى قبائله البتر، ويفترض هؤلاء النسابة أن البرانس من نسل برنس بن بربر بن مازيغ، وان البتر من ولد مادغيس الابتربن بر بن مازيغ على حد رأي السلاوي، وتميزت شعوب البرانس عموما بالاستقرار في القرى الساحلية والتلية والجبلية للزراعة وتربية المواشي فهم فريق من المستضعفين على حد تعبير ابن خلدون، أما البتر فغلب عليهم طابع البداوة والرعي فهم أهل العز والغلبة، وقد استولى البيزنطيون على الأراضي الخصبة في الساحل وطردوا منها سكانها الأصليين وفرضوا عليهم الضرائب الثقيلة، وأما هذه السياسة البيزنطية تأسست في المناطق الداخلية لافريقية ممالك مغربية ظلت تقاوم الوجود البيزنطي إلى غاية مجيء الفتح الإسلامي، ومما يلفت النظر أن الامازيغ الذين طالما استبسلوا في الدفاع عن الوطن وقارعوا الرومان والوندال و البيزنطيين سرعان ما ارتاحوا للعرب المسلمين، فتبادلا الاحترام والإعجاب، ثم انضم الامازيغ إلى الحركة الإنسانية الجديدة بترحيب منهم ورضا، نتناول بالشرح والتفصيل هذا المطلب في النقطتين التاليتين:
الدراسة الاقتصادية
كان النشاط الاقتصادي لسكان شمال افريقيا هي الزراعة في المقام الأول ، نظرا لوفرة الزرع وتنوعه فكان معظم البربر فلاحين وكانت أرضهم هي مورد رزقهم الأساسي ، لكن أوضاعهم تغيرت مع مجيء الرومان ، حيث قام بالاستيلاء على الأراضي الخصبة التي يملكها ملوك البربر أو الشعب وقد كانت سياسة الرومان واضحة في هذا الشأن إذ وما تبقى يحتفظ به السكان الأصلين ولكن مع دفع الضرائب (ضريبة على الفرد ، ضريبة على المبادلات التجارية، ضريبة لتغطية تكاليف رجال الأمن ) وهناك موظفون مكلفون بجمع هذه الضرائب وهم من البربر ويعرفون بـالعشارين .
وننوه هنا إلى حقيقة لابد من إبرازها ، وهي أن منطقة الشمال الإفريقي عرفت انتعاشا اقتصاديا في أواخر الحكم البيزنطي بالمنطقة ، وهذا بفضل الإمبراطور جريجوريس الذي حكم سنة 641 م وقد نجح في جلب تأييد سكان شمال إفريقيا ومنهم سكان برقة وطرابلس.
" أما بخصوص اليهود ، فنشاطهم لهم يختلف منذ ظهورهم على سطح هذه الأرض ، فقد اعتمدوا على التجارة والمعاملات الاقتصادية من قروض و رهون إلى جانب بعض الصناعات كالخياطة والصياغة وهذه الأخيرة كان لها الحظ الأوفر نظرا لتوفر معدن الذهب بشمال أفريقيا بالخصوص في منطقة المغرب الأدنى (قرطاجنة ) والمغرب الأقصى ."
الأوضاع السياسية قبيل الفتح الإسلامي : (602-647م)
كانت منطقية ساحل افريقية الشمالي خاضعة للنفوذ الروم ، وعاصمتهم آنذاك قرطاجنة وكانت تحكمهما حاميات رومانية يرأسها حاكم عام يعينه الإمبراطور وفي السنوات القليلة التي سبقت الفتح الإسلامي عين الإمبراطور موريس ، البطريق هرقل القائد الأعلى على المغرب سنة 600م ، هذا الأخير الذي أعلن معارضته للإمبراطور الجديد فوكاس لذي أعتلى العرش سنة 602م خلفا للمغرور به موريس ، وبرز ذلك بوضوح عندما أراد أن يفصل منطقة افريقية من الإمبراطورية ، وقد نجح في جمع وكسب تأييد سكان القسطنطينية وكل روما ضد ذلك الإمبراطور الغاشم إلى جانب ذلك ساعده موقف سكان شمال إفريقيا من البربر الذين أيدوه نظرا لحكمة العادل مقارنة مع باقي الحكام السابقين إلا أن هرقل كان طاعنا في السن فاقترح ابنه هرقل الشاب ورفعه إلى مرتبة الإمبراطور ، فأعد جيشا من البربر بقيادة ميسيتاس ابن أخيه الذي تمكن من الاستيلاء عل الإسكندرية فيما بين سنتي (608-609م) ، في الوقت الذي كان فيه هرقل الصغير يقود أحد الأساطيل الحربية بقصد الاستيلاء على القسطنطينية والإطاحة بحكم الإمبراطور فوكاس .
نفهم من ذلك ، أن منطقة شمال افريقية كانت قاعدة ومنطلق لحركات المعارضة للحكم الروماني في القسطنطينية في أواخر حكمها قبل الفتح الإسلامي ، وأنه كان للبربر دور بارز في تلك الحركات ، وبالفعل فقد نجح هرقل الإمبراطور الجديد من القضاء عل فوكاس سنة 610م وأصبح إمبراطورا على الدولة البيزنطية وأصبحت افريقية مركزا لاهتمامه ومحط أمال الإمبراطورية في أشد فترات حياتها ، فعندما احتل الفرس أرمينيا وحاصروا الإسكندرية بقصد منع تزويد القسطنطينية بالرجال والمؤمن تولت افريقية أمر المؤمن وكانت تزود القسطنطينية بالجنود والأساطيل .
وعلى عكس الفترات السابقة من الحكم الروماني في شمال إفريقيه الذي كان يتميز بالشدة والعنف ، من تمييز عنصري وسفك للدماء وفرض للضرائب الباهظة على السكان والاستحواذ على الأراضي الشاسعة الخصبة. إلا أن افريقية شهدت في أيام الإمبراطور هرقل عصرا من السلام لم تشهده من قبل وتمتع البربر وهم الأكثرية في المنطقة بالكثير من الحرية والاطمئنان، وفي خلال هذه الفترة انتشرت حركة التبشير المسيحي ودخل العديد من السكان البربر في المسيحية وصار ممثلوها من القساوسة والرهبان هم الحكام الفعليين في المنطقة وأصبح البابا القطب الذي يتوجه اله السكان يطلبون حمايته من مظالم الإدارة البيزنطية وقد ازداد نفوذه في البلاد وصاد يتدخل في الشؤون الإدارية .
وقد صار البطريك جريجوريويس (جرجير) حاكما عاما على افريقية وأعلن عن رغبته عن فصل إقليمي برقة وطرابلس عن الإمبراطورية البيزنطية وقد أيد سكانها من البربر خاصة بعد ظهور مذهب المونوثيلية (MONOTHELISME) الذي أو وجده بطريك القسطنطينية سيرجيوس ويقر هذا المذهب أن المسيح جاء بصفة اله وليس كما يقر معظم الكاثوليك أنه أظهر كل من طبيعته بإرادة واحدة إلهيه وبشرية في أن واحد. فسرجيوس ينكر صفة البشرية في المسيح عيسى عليه السلام ، ومما زاد في تأزم الأوضاع أن الإمبراطور هرقل أيد هذا المذهب ، هذا ما أثار غضب واستنكار قساوسة افريقية وعلى رأسهم جريجوريوس الذي أعلن سنة 646م استقلاله عن الإمبراطورية البيزنطية وتلقب بموافقة الشعب المغربي –إمبراطورا – ولقد ضرب جريجوريوس العملات باسمه وجعل قرطاجنة عاصمة حكمة ،غير انه عندما بدأت حملات المسلمين تصل إلى افريقية وخصوصا بعد سقوط حكم الرومان بمصر ، قرر جريجوريوس نقل عاصمته إلى سبيطلة في وسط افريقية.
هذا فيما يخص منطلقة ساحل افريقية ، أما فيما عاداها من الصحاري والمزارع والى غاية الجنوب في منطقة السوس الأدنى (السودان) والسوس الأقصى (مراكش )، فالحكم كان بيد البربر .
ويصفهم ابن خلدون بأنهم كانوا في دور البداوة عند الفتح العربي الإسلامي ، وكانوا لا تجمعهم أمه بل يعيشون في حياة قبلية.
المبحث الثاني : مراحل الفتح الإسلامي لبلاد المغرب
تفيد المصادر الإسلامية بأن الفتح الإسلامي لبلاد المغرب قد استغرق مدة طويلة تكاد تقرب من السبعين عاما ، وهذا يرجع لعدة عوامل أهمها :
صعوبة البلاد من الناحية الجغرافية و اشتداد حركة المقاومة البربرية تدخل بعض العناصر الأجنبية كالروم (البيزنطيين) في الحرب ضد المسلمين الفاتحين.
ويتضح من المصادر التاريخية الإسلامية والمسيحية (البيزنطية) أن الفتوحات الإسلامية التي قام بها الأمويون في بلاد المغرب كان هدفها الرئيسي هو غزو صقلية وجنوب إيطاليا أو بمعنى آخر غزو الإمبراطورية البيزنطية من ناحية الغرب إلى جانب الحملات الإسلامية التي توجه إليها من ناحية الشام واسيا الصغرى من جهة الشرق، وبذلك يتم للمسلمين تطويق العاصمة القسطنطينية من جهة الشرق والغرب مما يساعد على فتحها وإخضاعها للمسلمين.
وإذا تتبعنا أدوار أو مراحل الفتح العربي الإسلامي للمغرب نجده قد مر بمرحلتين رئيسيتين هما: أولا: مرحلة الاستكشافات (الإرهاصات) وثانيا: مرحلة الفتح المنظم ، نتناول هذه الفترة الهامة من التاريخ الإسلامي في المطالب التالية:
المطلب الأول : مرحلة الإرهاصات (21-49هـ )
لما استقر سلطان العرب في مصر، اضطرت الضرورة الحربية والي مصر عمر بن العاص إلى التوجه نحو إقليم برقة لتأمين قاعدة الفسطاط، وللحفاظ على المكاسب العربية في مصر ولدفع ما قد يظهر من مشروعات بيزنطية ترمي إلى استرجاع مصر، عن طريق طرابلس وبرقة، والوثوب منها إلى الشام، واقتضت هذه الإستراتيجية، أن يسن عمر سنة يحتذي بها من جاء بعده من ولاة مصر من إرسال البعوث والسرايا الاستطلاعية لكشف المنطقة و التعرف على سكانها وكسبها إلى حظيرة الإسلام والدولة العربية، قبل مفاجأتهم بجيوش ضارية تحتل المنطقة عنوة، وأول بعث أرسله عمرو إلى منطقة برقة كان بقيادة قريبه عقبة بن نافع الفهري فعاد بأخبار مشجعة عن المنطقة وسكانها من قبيلة لواتة وماضيها البطولي في الكفاح ضد البيزنطيين فحملته تلك الأخبار على التوجه بنفسه على رأس جيش من الفرسان إلى منطقة برقة، ثم تمكن عبد الله بن سعد بن لبي سرح من القضاء على الوالي البيزنطي جرجير سنة 27 هـ، ثم من بعده جاء معاوية بن هديج حيث قام بثلاث حملات على إفريقيه وحفر الآبار وأقام القيروان، كل هذه الأحداث والجهود نتناولها فيما يلي:
جهود عمرو بن العاص
بدأ المسلمون في فتح بلاد المغرب منذ سنة 21هـ / 642 م في ولاية عمرو بن العاص على مصر وذلك لتأمين حدود مصر الغربية من خطر الروم (أو البيزنطيين) الذين كانوا يحكمون المغرب الأدنى (افريقية) إذ كان يخشى أن يحاولوا استعداد مصر من يد المسلمين من هذا الطريق الغربي.
فعقب انتهاء القائد الإسلامي عمرو بن العاص من فتح مصر بدا يتجه إلى المغرب فأسرع بإرسال عقبة بن نافع الفهري على رأس حملة استطلاعية إلى إقليم برقة ويبدو أن عمرو وبن العاص اطمأن إلى تقرير عقبة عن منطقة برقة الذي وأوضح فيه سهولة فتحها بإرسال جيوشه إليه وسار عمرو بن العاص على رأس الجيش متجها نحو الغرب حتى وصل إلى برقة التي كانت تسكنها قبيلة لواته البربرية (من البربر البتر) والتي أسرعت إلى تقديم فروض الطاعة والولاء للجيش الإسلام وصالحهم عمرو على نظير جزية يؤدونها إليه وهي دينار عن كل بالغ ، وهكذا ضمن عمرو بن العاص بمعاهدته مع قبلية لواته أن يكسبهم إلى جانب المسلمين ونجح في إدخال بعضهم في الإسلام ، وبعد ذلك اتجه عمرو بن العاص إلى إقليم طرابلس وفتحه وفي نفس الوقت تمكن أحد قواده وهو بسر بن ارطأة من فتح ودان ، كما قام عقبة بفتح منطقة فزان سنة 23هـ /644م .
وبينت الرواية الإسلامية أن عمر بن العاص أراد بعد فتح طرابلس أن يواصل فتوحاته ويغزو ما وراءها من بلاد افريقية (التابعة للبيزنطيين) وأنه أرسل يستأذن الخلفية عمر بن الخطاب في ذلك ولكن الخلفية رفض أن يجيبه على طلبة ومنعه من تنفيذه ء وذلك لان الخلفية عمر كان يخشى على جيوش المسلمين من الانتشار والتبعثر في تلك المناطق الشاسعة المترامية الإطراف كما أن نفوذ المسلمين لم يكن قد توطد بعد في البلاد التي فتحوها واستقرا فيها حديثا مثل بلاد الشام والعراق ومصر ، مما يدل على سلامة تفكير الخلفية عمر بن الخطاب كقائد إسلامي بعيد النظر وسديد الرأي .
حملة عبد الله بن سعد بن أبي سرح
بعد مقتل عمر بن الخطاب سنة 23هـ / 644م تولى عثمان بن عفان الخلافة فأمر بعزل عمرو بن العاص من ولاية مصر وأسندها إلى عبد الله بن أبي سرح ء وقرر الخلفية عثمان مواصلة الحملات الإسلامية لفتح بلا المغرب . انتقل عبد الله بن سعد على رأس حملة قوية سنة 27هـ /648م وعبر بها منطقة طرابلس ووصل زحفة نحو افريقية (المغرب الأدنى ) التي كانت تحت حكم بطريق الروم (البيزنطيتين) ويسمى جريجوريوس ويعرف بجرجير ، يعرض عليه أما الإسلام وأما الجزية أو القتال ، فرفض جريجوريس الذي من قرطاجنة ، لكن المسلمين لحقوا به إلى موضع يسمى سبيطلة (جنوب غرب القيروان ) وعسكروا هناك ، وجددوا طلبهم إلى جرجير فرفض مجددا فبدأت المناوشات بين المسلمين والبيزنطيين.
وكان جرجير حاكم افريقية يخشى أن يشتبك مع المسلمين في معركة حاسمة فيتعرض جيشه للهزيمة خاصة وأن أنباء انتصارات المسلمين في العراق وفارس والشام ومصر وبرقة قد وصلته ولهذا فقد كان القاتل بادئ الأمر عبارة عن مناوشات بسيطة امتدت بضعة أيام كان القتال إثناءها يستمر من الصباح حتى الظهر، ويبدوا أن جش الروم كان مفرقا على جيش المسلمين من الناحية العددية مما دفع أحد قادة المسلمين وهو عبد الله بن الزبير بين العوام إلى التفكير في طريقة تحقق النصر للمسلمين فاتفق مع ابن سعد على أن يباغت ابن الزبير الروم بالهجوم بعد انتهاء القتال اليومي عندما يكون التعب قد أحل بالروم ، وقد نجحت تلك الخطة وتمكن ابن الزبير وأصحابه من احتراق معسكر الروم ، واستطاع أن يصل بسهولة الى مخيم البطريق جرجير وقتله مما أدى إلى ارتباك جيش الروم وهزيمة عقب مقتل قائده وذلك سنة 28 هـ /649 م ، وتعرف تلك الموقعة بموقعة سبيطلة .
ومن نتائج تلك الموقعة تمكن ابن سعد من الاستيلاء على حصن سبيطلة بعد حصاره عدة أيام ، ولما رأي البيزنطيون وحكام المدن في افريقية انتصارات المسلمين طلبوا من ابن سعد أن يرحل عنها مقابل جزية سنوية يدفعونها للمسلمين ووافق ابن سعد على ذلك خاصة أن أهل النوبة بدأ خطرهم يزداد على مصر من الناحية الجنوبية واستعد للعودة إلى مصر دون أن يستغل انتصاره في موقعه سيبطله ويتخذ قاعدة للمسلمين في افريقية (المغرب الأدنى ) ومع ذلك فان حملة عبد الله بن سعد كانت تجربة مفيدة للمسلمين إذ أوضحت لهم أحول تلك البلاد ومدى أهميتها بالنسبة لهم .
حملة معاوية بن حديج على افريقية سنة 45هـ ـ 666م
توقفت الفتوحات الإسلامية في افريقية عدة سنوات بسبب فتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان ثم الصراع بين على ومعاوية بن أبي سفيان حول الخلافة ولم تتجدد الفتوحات مرة أخرى إلا بعد استقرار الأمر لمعاوية سنة 41هـ /662 م الذي يسمى بعام الجماعة .
وعلى أية بعد أن تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة الأموية قرر إعادة فتح افريقية ومواصلة حركة الفتوحات الإسلامية في بلاد المغرب ، وعهد بتلك المهمة إلى قائده معاوية بن حديج سنة 45/هـ /666م ، وتقدم ابن حديج بجيوش واتخذ من وضع يسمى قمونية (جنوب قرطاجنة ) معسكرا ثابتا له ، ومن هنا أخذ يوجه السرايا إلى مركز البيزنطيين بافريقية ، ومنها تلك السرية التي قادها عبد الله بن الزبير إلى المدن الساحلية واستولى فيها على قابس وبنزرت وسوسة وفي هذا الميناء الأخير (سوسة ) كان الأسطول البيزنطي قد أنزل جيشا بقيادة بطريق يدعى نقفور لمهاجمة المسلمين ، فقام ابن الزبير بمهاجمتهم بمن معه فتراجع الروم مهزومين إلى سفنهم ، وسرية أخرى أرسلها ابن حديج بقيادة الأمير الأموي عبد المالك بن مروان إلى حصن جلولاء - وهو من الحصون البيزنطية الهامة – فحاصره عبد الملك واستولى عليه بعد قتال عنيف.
استقر معاوية بن حديج في جبل القرن ، وجعله مقرا له مدة ثلاث سنوات فبني بناحية القرن مساكن سماها قيروان واحتقر بها آبار تسمى آبار حديج . ويعتبر معاوية بن حديج أول من فكر في إقامة حاميات ومناطق دائمة للمسلمين بافريقية وهذا طبعا بعد داهية العرب عمرو بن العاص وما شيده في مصر (الفسطاط ) وبعد معاوية بن حديج أخذت الفتوحات تأخذ منحى أخرى أكثر تنظيما.
ولم يلبث أن أمر الخليفة معاوية بن أبي سفيان بعزل ابن حديج ولاية افريقية وولى عليها القائد التابعي المشهور عقبة بن نافع الفهري ، وبتوليته تبدأ مرحلة الفتح المنظم لبلاد المغرب .
المطلب الثاني: مرحلة الفتح المنظم (50-89هـ )/(671-708م)
تميزت مرحلة الإرهاصات منذ عمرو بن العاص إلى معاوية بن حديج بالكشف والاستطلاع في أقاليم المغرب دون التوغل إلى أراضيه ثم العودة السريعة إلى مصر كقاعدة ثم إلى برقة كقاعدة ثانية لأنه لم يكن للمسلمين معقل حصين يحميه، وفي فتوح البلدان للبلاذري ما يفيد عودة ابن أبي سرح بعد عقد الصلح لأنه "لم يكن لافريقية يومئذ قيروانا" ، أما فكرة بناء قاعدة ثابتة وترك حامية عربية لحراسة ما حصل عليه المسلمون في المغرب فلم تظهر بين مشروعات القادة الأولين، فأول من اختار قيروانا هو معاوية بن حديج الذي نجح في تمكين العرب من إقليم المغرب، ثم جاء من بعده عقبة بن نافع الذي قال لأصحابه " أن افريقية إذا دخلها أمير تحزم أهلها بالإسلام فإذا خرج منها عاد أهلها إلى الكفر واني أرى أن اتخذ بها مدينة نجعلها معسكرا وقيروان تكون عزا للإسلام إلى آخر الدهر" ، وبذلك تبدا مرحلة الفتح المنظم لبلاد المغرب والتي عرفت بعصر الولاة، نتناول هذه المرحلة في فترتين :
الفترة الأولى : (50-64هـ ) :
تميزت ببناء القيروان كقاعدة تنطلق منها الجيوش الإسلامية لفتح بقية بلاد المغرب وشملت ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية وولاية أبي المهاجر دينار.
حملة عقبة بن نافع وولايته الأولى على افريقية : (46-50-هـ ) / (667-671 م )
- بناء القيروان :
في سنة 46هـ /667 م سار عقبة بن نافع الفهري – من قبل معاوية بن حديج –بجيش كبير وفتح فزان وما ورائها من تخوم السودان الغربي فدخلت جميع (لوبيا – ليبيا ) في طاعة العرب، بعدئذ تقدم عقبة إلى افريقية (القطر التونسي ) وفتح قفصه وقسطيلية .
وأراد عقبة إن يتخذ قيروان معسكرا أو مركزا عسكريا دائما ، ذلك لان الفتوح الأولى لم تثبت فقد كان أهل إفريقيا يطيعون إذا غزا العرب البلاد ، فإذا عادوا عنها عاد أهلها إلى المعصية و نقضوا الصلح ،ويحسن أن نلاحظ هنا أن الروم والفرنجة كانوا قد اجلوا البربر عن الشواطئ وسكنوها هم . فالذين كانوا يقاومون العرب لم يكونوا البربر أهل البلاد الأصليين بل الروم والفرنجة الروم والفرنجة وجماعة قلية من البربر يساندونهم .
بنى عقبة بن نافع معسكر القيروان وهو مدينة القيروان اليوم في القطر التونسي وكانت القيروان على شيء من الخصب تصلح مرعى للإبل كما كان موضعها بادية يشبه ما كان العرب قد ألفوه في الجزيرة العربية ، بالإضافة إلى بعدها عن بحر الذي يسيطر عليه الروم والفرنجة بفضل أسطولهم القوي ، كما أنها كانت طريقا للقوافل التجارية .
أسس عقبة بن نافع معسكر القيروان سنة 50 هـ / 671م ، وأقام بها مسجدا ، ومع مرور الأيام بدأ الناس يتوافدون على هذا المعسكر الذي صار في وقت وجيز مدينة عظيمة وعاصمة شهيرة ومراكز من مراكز العلم والحضارة في العالم الإسلامي .
ولاية عقبة الأولى على افريقية : (50ـ 55هـ )/ (671ـ 675م ):
في سنة 50هـ / 671م ، فصل معاوية بني أبي سفيان ولاية افريقية عن ولاية مصر ، فاقر ابن حديج على مصر وولّي على افريقية عقبة بن نافع .
وبعد ذلك عزل معاوية بن أبي سفيان ابن حديج عن مصر وأقر مسلمة بن مخلد على الغرب كله من التخوم الغربية لمصر إلى طنجة وهو أول وال جمع له المغرب ، هذا الأخير الذي عزل عقبة عن افريقية وولي مكانه أبي المهاجر دينار مولي بني مخزوم سنة 55 هـ / 675م .
ولاية أبي المهاجر دينار مولى بني مخزوم سنة (55ـ 62هـ ) /(675/682م):
لم تستمر ولاية عقبة بن نافع على افريقية سوى خمسة أعوام فعقب إتمامه بناء القيروان أمر الخليفة معاوية بن أبي سفيان بعزله سنة 55هـ 675م نتيجة لوشايات مسلمة بن مخلد والي مصر الذي كان يحسد عقبة على انتصاراته وأعماله العظيمة في افريقية وربما نتيجة لسياسة العنف والشدة التي اتبعها عقبة في بلاد المغرب نحو سكنها من البربر .
وعلى أية حال تولى مكان عقبة قائد كفء لا يقل خيرة وهو أبو المهاجر دينار الذي امتدت ولاته على افريقية نحو سبع سنوات وهذا الوالي الجديد لا نجد معلومات عنه في المصادر الإسلامية بما يتناسب مع الأعمال الجليلة التي قام بها في بلاد المغرب فالمؤرخون أسهبوا في الحديث عن ولاية عقبة و عن أعماله بينما اغفلوا الإشارة إلى دور أبي المهاجر دينار رغم أن إسهاماته لا تقل أهمية عما قام به عقبة وربما مرد ذلك أن ولاية أبو المهاجر وقعت بين ولايتي عقبة الأولى والثانية ، مما كان له تأثيره على مرور المؤرخين عليها مرارا سريعا .
ولقد عرف أبو المهاجر دينار بالدهاء واللين وحسن السياسة فأستمال إليه البربر البرانس ليضمن انضمامهم إلى المسلمين ، واستطاع أبو المهاجر بفضل سياسة اللين أن يضم إليه زعيم البربر البرانس ويدعى كوسيلة (من قبيلة أوربة ) وكان نصرانيا فاعتنق الإسلام كما اسلم عدد كبير من قومه وكان كسيله وقومه قبل إسلامهم حلفاء للبيزنطيين .
ولقد تمكن أبو المهاجر بفضل مؤازرة كسيله أن يستولي على جنوب إقليم قرطاجنة ويجتاح المغرب الأوسط ويحتل مدنه الساحلية حتى تلمسان.
2ـ ولاية عقبة بن نافع الثانية (62 ـ 64هـ )/ (682ـ 684م)
بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان سنة 60 هـ / 680م وتولى ابنه يزيد الخلافة أمر بعزل أبي المهاجر دينار عن افريقية وتولية عقبة عيها للمرة الثانية وذلك لان الخليفة يزيد علم جيدا فضل عقبة وحماسه لنشر الإسلام.
وعندما وصل عقبة إلى افريقية قام بتعمير مدينة القيروان ثم قرر القيام بالغزو فترك بالقيروان حامية صغيرة من المسلمين واستحلف بها زهير بن قيس , وخرج عقبة على رأس الجيش في حملته الكبرى التي وصل فيها حتى شواطئ المحيط الأطلسي وكان معه أعداد من البربر البرانس على رأسهم زعيمهم كسيله ، وقد تمكن عقبة خلال تلك الحملة من بسط نفوذ المسلمين على قرطاجنة وحصن المنستير، كما انتصر على الروم والبربر وقضى على كل مقاومة لهم في المغرب الأوسط، غير أن عقبة أساء معاملة كسيله زعيم البربر وأهانه مما أدى إلى فراره هو وأصحابه من جيش المسلمين وقرر الانتقام.
بعد ذلك واصل عقبة الزحف نحو الغرب قاصدا المغرب الأقصى ودخله عام 62هـ/ 682م ويعتبر عقبة بن نافع أول مسلم وطأت قدميه تلك الأرض، وواصل زحفه حتى المحيط الأطلسي وتذكر الرواية أنه أدخل قوائم فرسه في مياه المحيط ثم رفع يديه إلى السماء وقال عبارته الشهيرة :" اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد سواك ".
وبعدها أسرع عقبة بالعودة متجها إلى المغرب الأوسط ،حيث ترك معظم جيشه يعود إلى مدينة القيروان في حين اتجه هو على رأس فرقة صغيرة نحو الجنوب حيث مدينة تهوده ليستولي عليها ويجعل منها قاعدة حربية أخرى للمسلمين في المغرب الأوسط , وهناك عاد كسيله للظهور مجددا في جيش ضخم من البربر والروم ، ودارت معركة عند تهودة سنة 64 هـ /684م آثر فيها أبو المهاجر البقاء رفقة عقبة بن نافع و استشهدا معا ، فلما علم نائبه بالقيروان زهير بن قيس البلوى باستشهاده قرر الانسحاب واتجه إلى برقة وبذلك تمكن كسيله من الاستيلاء على القيروان دون صعوبة سنة 64هـ /684م.
الفترة الثانية : (69ـ 90هـ )/ (689ـ 709م )
1- ولاية زهير بن قيس البلوي سنة 69هـ / 689م :
في سنة 69هـ / 689م ولي زهير بن قيس البلوي على المغرب وأمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير، سار زهير إلى القيروان وقاتل كسيله ومن معه فهزمهم وسقط كسيله نفسه قتيلا, ولكن الروم والفرنجة عادوا بنجدات كثيرة وقاتلوا العرب, فاستشهد زهير وكثير ممن كانوا معه في ينفس السنة .
1-ولاية حسان بن النعمان : (73ـ85هـ )/(693ـ 704م)
- حملة حسان الأولى:
بعد أن تغلب عبد الملك بن مروان على ابن الزبير (مشكلة خلافة) سنة (73هـ693م) وجه إلى المغرب اهتماما صحيحا فولي عليه حسان بن النعمان, فتغلب حسان على الروم وبسط نفوذه على البلاد كلها من برقة إلى أطراف المغرب الأقصى, و كان البربر قد ولوا على أنفسهم, بعد مقتل كسيله, امرأة كاهنة تسمى داهية بنت ماتيه بن تيغان, ملكة جبل الأوراس ، وقد سأل حسان جماعة مسلمي البربر فذكروا له :" أن جميع من بافريقية منها خائفون ، وجمع البربر مطيعون فان قتلتها دان لك المغرب كله ، ولم يبق لك مضاد ولا معاند ". ولم يتردد حسان في السير نحو جنود الكاهنة، لكنه واجه مقاومة من نوع أخر، فالكاهنة اتبعت خطة وحشية تقضي بتحطيم كل ما تخلفه وراءها، من حرق للزر وع وتهديم للبيوت وردم للآبار، أو ما عرف في عصرنا بسياسة الأرض المحروقة. لكن التدمير أضر بالكاهنة ضررا بالغا, فقد انفض عنها معظم أنصارها من النصارى والأفارقة, واتصل عدد كبير منهم بحسان يستنجدون به من الكاهنة, وكان البيزنطيون بعد سقوط قرطاجنة في أيدي المسلمين، ينتظرون فرصة مواتية يستردون بها المدينة، فانتهز الإمبراطور ليون تيوس فرصة انتصار الكاهنة على العرب, وأعد حملة بحرية بقيادة البطريق يوحنا, أغارت على قرطاجنة في سنة 78هـ/698م, وقتل البيزنطيون من بها من المسلمين وسلبوا ونهبوا ما وصلت إليه أيديهم.
حملة حسان الثانية :
بقى حسان ببرقه ينتظر المساعدات من الخليفة عبد المالك، وكان أثناءها على اتصال متواصل وسريا مع خالد بن يزيد؛ هذا الأخير الذي كان يعلمه بمستجدات الأحداث داخل جماعة الكاهنة, وبقى حسان زهاء ثلاث سنوات في برقة حتى عام 80هـ / 700م، عندما قضى على الفتن في المشرق، وأمده بجيش قوامه 40000 مقاتل. ولاشك في أن ضخامة هذا الجيش كان نتيجة انضمام البربر إلى العرب في محاربة الكاهنة التي ما علمت بقرب جيش المسلمين حتى رحلت من جبل الأوراس بعد أن أوصت خالد بن يزيد بأن يصحب ولديها ويستأمن لها عند حسان فأمنهما.
أما هي فقررت أن تقاتل حتى الموت وزحف حسان بكامل قواته لمقاتلة الكاهنة، فلما وصل إلى مكان قريب من قايس, لقيته الكاهنة تريد قلعة تتحصن بها, فأصبحت القلعة لاصقة بالأرض، فهربت قاصدة جبل الأوراس ومعها صنم كبير تحمله بين يديها على جمل, فتبعها حسان حتى قرب من موضعها, وبقى يطاردها حتى التقى بجيشها في سنة 82هـ /702م عند بئر الكاهنة, فهزمها هزيمة شنعاء وسحق جيشها وقتلها، وبذلك قضى حسان على كل أثر للمقاومة في المغرب الأدنى.
استقامت له البلاد، ثم عاد لمحاربة الروم الذين غزوا قرطاجنة واسترد المدينة، ولكن كان يخشى أن يفاجئه الروم من البحر مرة ثانية, فرأى أن يقيم تجاه قرطاجنة مدينة عربية إسلامية تقع على البحر وتشرف على مدخل قرطاجنة, فبني تونس على بعد نحو 12 ميلا شرقي قرطاجنة، فحولها حسان من قرية إلى قاعدة بحرية تقلع منها الأساطيل وأنشأ بها دار لصناعة الأسطول وأخرق إليها البحر وحفره إليها وبذلك أصبحت ميناء بحريا هاما, وشيد بها دارا للإمارة وثكنات للجند, وبني مسجدا هو اليوم جامع الزيتونة, كما أمر حسان بتجديد المسجد الجامع بالقيروان, فبناه حسان و كان ذلك سنة 84هـ /703م .
اعتنى حسان بتنظيم افريقية إداريا فدون الدواوين ونظم الخراج وكتبه عجم افريقية وعلى من أقام معهم دين النصرانية, ثم بعث عماله إلى سائر بلاد المغرب, وعمل على نشر الدين الإسلامي بين البربر, ونشر اللغة العربية, ونجح في حشد أعداد هائلة من السكان رحبت بالإسلام, وصار البربر جزءا من جيش المسلمين. وفي سنة 85هـ/704م عزل حسان من طرف عبد العزيز بن مروان والى مصر.
3ـ ولاية موسى بن نصير واستكمال فتح المغرب (85ـ 96هـ )(704ـ 715)م
ولي موسى بن نصير على افريقية في أواخر سنة 85هـ /704م وكان عاملا لعبد الملك بن مروان على العراق.
بدأ موسى بفتح قلعة زغوان وما يجاورها في أواخر سنة 85هـ /704م، وهي منطقة جبلية تقع بين القيروان وتونس, وكان يسكنها قوم من البربر يتزعمهم أمير يقال له ورقطان، وكانوا يشكلون خطرا على القيروان، إذ كانوا يغيرون من وقت لأخر على مقاطعات المسلمين فوجه إليهم موسى بن نصر 500 فارس بقيادة عبد الملك الخشيني فهزمهم وقتل أميرهم وافتتح قلعتهم وبلغ سبيهم يومئذ 10000 رأس. وكان أول سبى دخل القيروان في ولاية ابن نصير .
وكانت الخطوات التالية في فتوحات موسى أن بعث قائده عياش بن أخيل إلى قبائل هوارة وزناته فأغار عليهم وقتل منهم جماعات كثيرة, وبلغ سبيهم 5000 رأس وعقدوا الصلح مع المسلمين رغما عنهم، أما كتامة فقد صالحت موس بن نصير، وكان موسى يبعث عيونه إلى القبائل ليتجسس عليها ويستقصي أحوالها, ومنها قبيلة صنهاجة التي وصلت أخبارها إلى الأمير تسهل له فرصة غزوها وغزاها بـ 4000 جندي وهزمهم .
ثم غزا موسى في البحر أخر سنة 85هـ / 704 م الغزوة المعروفة بالأشراف وصل فيها إلى صقلية, وعاد بغنائم كثيرة في أوائل سنة 86هـ 705 م، ولقد بلغة نبأ وفاة عبد العزيز بن مروان سنة 85هـ /704م و وفاة أخيه عبد الملك في أوائل سنة 86 هـ / 705 م, فبعث موسى ببيعته إلى الوليد بن عبد الملك, فكتب هذا الأخير إلى موسى يقر له بولاية افريقية والمغرب .
وفي سنة 86هـ /705م ، كلف موسى بن نصير عياش بن أخيل بفتح ما وراء البحر وحل عليه الشتاء وهو في البحر, واستطاع أن يدخل سرقوسة (جنوب صقلية ), كما فتح عبد الله بن مرة سردينيا في نفس السنة. وكان المغرب قد فتح معظمه ولم يبق سوى المغرب الأقصى، فخرج موسى غازيا من افريقية إلى طنجة, فوجد البربر قد فروا إلى أقصى الغرب خوفا من بطش العرب بهم فتبعهم على رأس جيش مؤلف من وجوه العرب ومن اتصف من البربر بالقوة والجلد, فقتل منهم بإقليم موريتانيا عددا كبيرا وسبى منهم سبيا كثيرا وواصل زحفه حتى وصل إلى السوس الأقصى في حدود 87هـ /706م .
وأحدثت غزوات موسى هزة كبرى بين قبائل البربر، وسببت لهم الذعر والهلع فأخذوا يستأمنون العرب على أنفسهم ويستسلمون لهم, وتسابقوا في إعلان خضوعهم لهم والدخول في طاعتهم واعتناق الإسلام. وعين موسى وطارق بن زياد على طنجة ونواحيها, وترك معه 17 رجلا من العرب يعلمون البربر القرآن وشرائع الدين الإسلامي، فتم إسلام أهل المغرب الأقصى على يد هؤلاء. و يعتبر
موسى بن نصير أول من أقام القضاء بالمغرب وبالتحديد في مدينة القيروان, ولم يتعذر على موسى سوى مدينة سبتة لمناعتها ووصول الإمدادات إليها من البحر.
المبحث الثالث: الأبعاد الحضارية لانتشار الإسلام في بلاد المغرب
تعددت مظاهر الازدهار الحضاري لبلاد المغرب بعد الفتح الإسلامي ومن بينها اندماج البربر في الحضارة العربية الإسلامية المتواصل إلى زمننا الحاضر وإثراء الحضارة الإنسانية بعدد هام من العلماء والمفكرين والمبدعين فضلا عن تطور الفنون كالعمارة والزخرفة... .
فعقبة بن نافع ضرب مثلا في الدعوة إلى الإسلام والتبشير به في برقة وصحراواتها، وظهر حماسه الديني في ذلك الدعاء عندما باشر مدينة القيروان:" اللهم أملاها علما وعمرها بالمطيعين..." ، فحقيقة أول احتكاك العرب مع البتر وزناته كان في صحراء المغرب الأدنى والأوسط، وقد يكون من اثر قدم عدهم بالعرب انجذاب بعضهم إلى الإسلام، كما نجح أبو المهاجر دينار في جذب كسيله وإربة إلى الإسلام، كما رغب البربر في مزايا الإسلام ونشر الثقافة الدينية وتعلم الناس الفرائض، وانتقلت التيارات الثقافية من المشرق الى المغرب فكانت في هذه الفترة مراكز دينية واجتماعية وسياسية مما ساعد على الاستقرار في افريقية.
كان من اثار الحركة الثقافية ان غدت القيروان مرجلا يغلي بالدراسات والنقاش المذهبي فتنوعت حلقات مساجد القيروان ما بين واصلية وخارجية وظاهرية، حتى كتب الظفر نهائيا على يد اسد بن الفرات ثم عللى يد سحنون للمذهب المالكي وللتيارات المدنية ومحيت المذاهب الاخرى خاصة مذهب ابي حنيفة النعمان، هذه الأبعاد الحضارية نتناولها بالشرح والتفصيل في المطالب التالية:
المطلب الأول: اندماج البربر في الحضارة الإسلامية
واجهت الجيوش الإسلامية في بلاد المغرب قبائل بربرية تجيد فن القتال ومتمرسة في الحروب إلى جانب الجيش النظامي البيزنطي. وكانت تلك القبائل متحررة في أغلب الحالات من ولاءات أو أحلاف تجمع بينها وبقية القبائل في ما عدى المصالح المشتركة بحيث لم تكن توجد مظاهر وحدة تجمع بينها وتجعلها تتضامن وتتحالف للوقوف بقوة أمام التحديات الخارجية. ولهذا السبب كانت منطقة شمال إفريقيا منذ فجر التاريخ معرضة للغزوات المتتالية من الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والو ندال... مما جعل القبائل البربرية تبحث عن هويتها المشتتة بين ولاء بعضها للبيزنطيين واستقلال البعض الآخر على أرضه طالما أنه قادر على الدفاع عنها، ونتطرق إلى كل هذا شرحا وتفصيلا في النقاط الآتية:
اندماج البربر
ولما جاء الإسلام فإنه مثل عامل وحدة ثقافية واجتماعية وعقائدية وسياسية اجتمعت حوله مختلف القبائل تتهافت على القيام بدور لبناء هذا الصرح العملاق المتمثل في "خير أمة أخرجت للناس" والمساهمة في تدعيم المكاسب كنشر الإسلام في الأندلس ودعم الحضارة الإسلامية بمعالم وشخصيات علمية لا يزال أثرها قائما إلى يوم الناس هذا ، ويتشابه دور الدين الإسلامي في هذا المجال مع الدور الذي لعبه في الجزيرة العربية لما حثّ الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم على تأسيس نظام سياسي يتجاوز الإطار القبلي وأدى إلى نشأة الدولة الإسلامية التي يتساوى فيها جميع الناس بقطع النظر عن انتماءاتهم القبلية.
ولئن كانت بداية عملية اندماج البربر بطيئة فإنها توسعت وفق السياسة التي اتبعها الولاة حيث شجع أبو المهاجر دينار – البربر على اعتناق الإسلام وكان مرنا معهم وأسلم على يده الكثير منهم مثل القائد كسيله.
كان ثلث جيش زهير بن قيس البلوي من البربر، كما أن كسيله لما دخل القيروان لم يدمرها وأمّن أهلها وكذلك فعلت الكاهنة. ومن جهة أخرى ساهمت سياسة القائد حسان بن النعمان في اندماج البربر في الحضارة الإسلامية لما اشترط على القبائل المنهزمة نحو 12000 رهينة لينشر في صفوفهم الدين الإسلامي ويدعم بهم الجيش لتحقيق الانتصارات كما ساهم هؤلاء الرهائن في نشر الإسلام بين ذويهم فيما بعد وشاركوا في الفتوحات ونالوا نصيبهم من الغنائم ومن الأراضي وارتقى العديد منهم في الرتب العسكرية. وتعتبر كل هذه الأمثلة نماذج إسلامية لكيفية تعامل القادة مع السكان الأصليين حيث أن المسلمين لم يصلوا إلى بلاد المغرب ناهبين ومخربين وقاهرين ومستبدين وإنما جاؤوا لرسالة أسمى ونظرة أرقى تتلخص في نشر كلمة التوحيد ورفع راية الإسلام إلى أبعد ما تسمح به الظروف والإمكانيات المتاحة، وكان رد الفعل من طرف البربر بالمثل حيث أقبلت جل القبائل على الإسلام واندمجت في المجتمع الإسلامي الجديد ليس بقوة السيف وإنما بالاقتناع وترسيخ العقيدة الإسلامية لدى فئات واسعة من السكان.